الاثنين، 24 يناير 2011

حمل همّـنا على كتفيه.. ورحل/ محمد فال ولد سيدي ميله


"الفلاسفة الحقيقيون يجعلون الموت مهنة لهم": تلك وجهة نظر سقراط، لسنا بصدد تحليلها ولا البحث عن مكنونات دلالاتها، غير أن هذه المقولة تنطبق بشكل كبير على وضع الفقيد يعقوب ولد دحود؛ فهو بالفعل جعل الموت مهنة له. ليس لأنه فيلسوف فحسب، بل لأنه مفكر كبير ومثقف بارع وعبقري نحرير.

قبل ثمانية أشهر التقيت الفقيد في منزله بكارافور. كان يحتسي كأسه ويحكي عن مرارة ما يعانيه في ظل النظام القائم. كانت الكأس مترعة بأحاديث متشعبة يتجاذبها أربعة رجال: الحضرمي ولد عُـبيد، الناه ولد عثمان والفقيد، بالإضافة إليّ. فاجأني المغفور له بموقفين كانا غاية في النبل: أولهما عن العبودية؛ أسبابها، أبعادها، ضرورة القضاء عليها، وأحقية ضحاياها في الاندماج مع اعتذار الأسياد والدولة المشكلة لدرعهم الواقي (ولعل في وصية الفايسبوك ما يجسد هذا الموقف من خلال مطالبته بإطلاق سراح سجناء المبادرة الانعتاقية). وثانيهما: الصحراء الغربية وما يضمنه لها القانون الدولي من حق في تقرير المصير، وما تعنيه هي نفسها من عمق استراتيجي وامتدادات ثقافية واجتماعية لساكنة البلاد.

كان الفقيد في كل مداخلاته يحمل على كتفيـْـه هما وطنيا ثقيلا وهما أسريا مريرا. ولم تكن "وصية الفايسبوك" إلا مرآة مهـشـمة عكست جزء يسيرا من ذيـْـنـك الهَـمّـيـْـن. كان الفقيد يتوجس خيفة مما قد تؤول إليه أوضاع موريتانيا.. كان يكره حاكمها إلى حد المقت والحنق، رغم أنه سانده في فترة "الكتيبة البرلمانية" وما رافقها من تشويش على نظام ولد الشيخ عبد الله بغية إسقاطه. قال الفقيد، من بين أمور أخرى، إن دعمه الجنرالَ "كان أكبر غلطة" في حياته. كان مملوءا حدَّ الانفجار بفكرة "إبعاد الجيش عن السياسة". فهو يعتبر أن "العدالة، والمساواة، واستقلال القضاء، وبناء دولة المواطنة، وتجنيب موريتانيا التفكك، مرهون جملة وتفصيلا بإقامة نظام ديمقراطي مدني صرف". كان هاجس الانزلاق في متاهات التفكك والحرب الأهلية يراوده في كل لحظة.. لم يكن من الصعب على محدثه أن يكتشف أن الهم الوطني يرهقه؛ ففي كلامه غصة المهموم، وفي تصرفاته جدية وهلع الساعي إلى إنذار الحي من سَـموم صرصر مدوية عاتية نكباء.

والحقيقة أننا نظلم الفقيد إن اعتقدنا أو روّجنا لفكرة مفادها أن دواعيه كانت قبلية ذات علاقة بصراع ملثم بين ذويه وقبيلة الرئيس ولد عبد العزيز، أو أنه "يعاني من أزمة نفسية عمَّـقها رحيل والدته قبل ثلاثة أشهر ومن ثم طلاقه من زوجته فأضحى انطوائيا معزولا في بيته". فرسالة الفايسبوك فندت البعد القبلي البحت، وحديثه مع جلسائه أكثر تفنيدا له. والفقيد، في الجانب الآخر، أبعد ما يكون عن الجنون أو الوسوسة أو الهوس أو الملنخوليا. فهو جدّ طبيعي. ولا هو فقد والدته الطيبة قبل ثلاثة أشهر لأنها التحقت ببارئها قبل عدة سنوات، ولا هو طلق زوجته، فهي حتى اللحظة تتلقى العزاء في منزله الباكي الحزين. إنها مجرد شائعات تهدف إلى تجريد فعلة الرجل من أبسط المضامين السامية. مع أن الفقيد – إضافة إلى الهمّ الوطني العام- ينوء بحمل هم أسري جلي؛ فهو لا يخفي ما يعتبره "استهدافا سافرا وظالما" لأسرته. فقد ذكر أن إحدى الوزارات اتفقت مع مؤسسة أهل دحود (الوطنية للصحة) على استجلاب معدات كبيرة وغالية جدا لصالح المستشفى الإسباني بانواذيبو، وأن المؤسسة اشترتها وشحنتها وأوصلتها إلى نواكشوط. غير أنها فوجئت بالوزارة وهي تلغي العقد لأسباب واهية. وبعد أن يئست المؤسسة من تعقل الوزارة طلبت من الشريك الأجنبي أن يسترجع تجهيزاته فرفض لأن العملية التجارية تمت بعقد وبدفع مسبق، فخسرت المؤسسة على إثر ذلك عشرات الملايين. كما يحكي الفقيد عن فشل أهله التام في استرجاع مليار أوقية تمثل ديونا تستحقها مؤسستهم على الدولة، مذكرا بأن مؤسستهم ربحت مناقصتين (إحداهما بـمبلغ 120 مليون أوقية، والأخرى بـمبلغ 80 مليون) وأنها أنجزت المشروعين المطلوبين منها، غير أن الوزارة المعنية رفضت تسديد المستحقات. ويقول الفقيد ان "الأمر أقرب إلى عملية تفقير ممنهجة تعي أهدافها".

لم يكن الفقيد براض إلا عن اثنين من الطبقة السياسية "المترددة والمرتبكة والمتذبذبة" على حد تعبيره. وثمة مفارقة في أن الاثنين لا شيء يجمعهما (من حيث وجهات النظر). فهو معجب إلى أبعد الحدود بالسيدين محمد المصطفى ولد بدر الدين وبيجل ولد حميد. يقول بأنه (وهو طفل في بيت أبيه الإداري) كان يسمع عن مدى تشبث بدر الدين بمبادئ العدالة، واستماتته في الدفاع عن قناعاته، وعندما كبر إذا به يرى "بدر الدين متشبثا بنفس المبادئ ومستميتا في الدفاع عن نفس القناعات". وقد زادت تدخلات بدر الدين في الجلسات البرلمانية إعجابه به لدرجة جعلته يسجل كل مداخلاته ويرتبها في فيديوهات خاصة على جهازه المحمول. أما بيجل فيعجبه فيه أنه "لا يعرف النفاق ويسمو عن التملق". وهو يعتبره الوحيد من بين أصدقاء ولد الطايع الذي عبر علنا (بعد سقوط نظامه) عن تمسكه بصداقته وبخطه "مما يبرهن على أنه كان مقتنعا به فعليا أيام حكمه، ولم تكن مساندته له كمساندة المتزلفين المائلين حيثما مالت الأنظمة". ويرى الفقيد أننا "يمكن أن نرمي بيجل بكل السوءات غير النفاق، فهو شخص يعرف معنى العهد ويقدر الالتزام؛ وبالتالي فهو بطبيعته صريح ونزيه في مواقفه".

عندما تدخل بيت الفقيد يعقوب تدهشك موهبته الغريبة، بعيدا عن كفاءاته. فالبيت عبارة عن استديو "طوارئ" دائم: راديو مفتوح، وتلفزة مفتوحة، وكومبيوتر محمول مفتوح، وكومبيوتر ثابت مفتوح، وهو يستمع للكل في آن واحد، ويقرأ في آن واحد، ويتجاذب مع أصدقائه أطراف الحديث في آن واحد. وفيما الحديث مستمر يتحول الاستيديو إلى ورشة تقنية عجيبة: فإذا دواليب التلفزة مبعثرة، وإذا رقائق الراديو أيدي سبأ، وإذا الكومبيوترات أجزاء متطايرة، ثم يختلط حابل كل شيء بنابله، ويحكي، ويدخن، ويحلل، ويوزع الابتسامات المجانية، ويصقل قضبانا ويثني أسلاكا، وهنيهة إذا بك تسمع من المذياع وترى من التلفزة وتقرأ في الكومبيوتر. إنه شخص ذو علاقة طيبة حتى بالألكترونيات.

الفقيد يعقوب أب لطفلة وطفلين وديعين (الحسين وبكرن) سميا أخويه. كانا في حضنه أميرين، "كانا لعبتيْ خزف". أما إخوته فأربعة: بكرن (رجل الأعمال) وعمر والحسين وموسى الذي توفي إثر صدمة النبإ المفجع. كان الفقيد عضوا نشطا في حركة الديمقراطيين المستقلين، وبعد حلها أصبح قريبا من تنظيم ضمير ومقاومة. كما تأثر في صغره بحركة الكادحين.

آخر لقاء لي بالفقيد كان في مقاطعة تيارت بعد أيام قلائل من لقاء كارافور.. هذه المرة كنا خمسة رجال: الأربعة الآنفين وصاحب المنزل العزيز عليّ: يحي ولد أحمدو. تحدثنا عن كل شيء وعن لا شيء.. كان الجانب الاقتصادي حاضرا، كما لم يغب الجانب الجيوسياسي إطلاقا. كان يعقوب هو هو؛ رجل نحيف يحمل في خزائن نفسه ثورة لا يسعها حجمه الصغير.. إنه يفور، يغلي، يجلجل، يتلوى حسرة وألما وحزنا على كل تفاصيل حياته، لذلك مات مصداق قول درويش بأن "أسباب الوفاة كثيرة، من بينها وجع الحياة". مات غير مكترث بما سيكون موضعا له من تشفي من يـُـفترض فيهم مواساة مواطنيهم.. مات وهو يصيح مع الجنرال كامبرون: "الحرس يموتون لكنهم لا يستسلمون". صحيح أنه في سبيل همَّـيـْـن ثقيلين حول نفسه إلى رماد، لكنه بحبر رماد جسمه، ودون أن يستشير رفيقه الشاعر فكتور هيكو، أعاد نشر كتاب "البؤساء" في سيمفونية يتعانق فيها جمال الخلاصات وبعض من نوتات الحزن الدفين.

ليست هناك تعليقات: